"
طالما أن الشأن السياسي "هو لا شيئ" وليس له مضمون " فإن كل شيئ يمكن أن يصبح سياسيا" ص 256
يتبادر إلى ذهننا بسرعة عندما نتحدث عن الدولة الإستبدادية استعمال الأساليب التقليدية للسيطرة على الأفراد والمجتمع : القمع والاعتقال والتعذيب والسجن والمتابعات البوليسية وفرض دور الزعيم .... وغيرها من آليات السيطرة الكلاسيكية، وهذا ما يسمى في أدبيات علم الاجتماع التاريخي في الشأن السياسي بأدوات التحكم والسيطرة من الأعلى أو من فوق.
لكن،
التطور التاريخي دفع بالدولة أن تفكر في ممارسة الإستبداد بإبتكار أساليب وطرق جديدة تسمى بالآليات الناعمة لممارسة السيطرة تتداخل فيها الأدوات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية... للسيطرة على الفرد والمجتمع، وهو ما يسمى بأدوات التحكم من الأسفل.
إنه موضوع أحد العناوين المتيرة للإهتمام والدراسة
، كتاب "التشريح السياسي للسيطرة " للباحثة الفرنسية BEATRICE HIBOU المؤلف سنة 2011 والذي ترجم إلى العربية سنة 2017 من 273 صفحة، عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت في طبعتها الأولى. الكتاب ينقسم إلى جزئين، الأول يتطرق ل"عمليات شرعنة السيطرة السلطوية والاستعداد للطاعة وكوكبة المصالح" فيما خصص الجزء الثاتي لموضوع ""تعقيدات" السيطرة : نقد لإشكالية القصدية".
الكتاب يقرأ -حقيقة- بصعوبة خصوصا بالنسبة لغير المتخصصين، حيث يعتمد على العديد من النظريات المتعلقة بالسلطة لمجموعة من المفكرين البارزين: مشيل فوكو، ماكس فيبر، كارل ماركس، ألتوسير...... الكتاب لا يسعى إلى معرفة أسباب السيطرة التي تمارسها الدولة الإستبدادية على الشعب، بل إلى فهم كيف تمارس هذه السيطرة وماهي مختلف آليات ومكانزمات الممارسة الاستبدادية في إطار الدولة الحديثة ؟ وكيف أصبحت المجتمعات المعاصرة تعيش بما يسمى "بالعبودية المختارة" والتطبيع مع الممارسة الإستبدادية للسلطة ؟
الكاتبة تبرز أن هذه الأساليب وإن إختلفت من بلد إلى أخر حسب طبيعة النظام السياسي، فإنها تتوحد في الأهداف، معتمدة على العديد من التجارب السياسية (تونس المغرب وبعض بلدان جنوب الصحراء البرتغال روسيا فرنسا المكسيك .....) لتقدم للقارئ رؤيتها عن الكيفية التي تمارس بها الدولة الإستبدادية سلطتها على المجتمع بشكل ناعم حتى في البلدان التي تسمى ديمقراطية.
بعيدا عن أساليب العنف والخوف والقمع، تبين الكاتبة كيف أصبحت اليوم البرامج الإجتماعية تشكل تعبيرا عن الزبونية الإستبدادية، هدفها الأساسي تهدئة العلاقات الإجتماعية وتحقيق الأمن في الإنتظام المجتمعي المفروض ولتعميق التحكم والمراقبة، وتتبيث التبعية للدولة وشرعية الحكم. وكيف أصبح الشأن السياسي يتحكم في الشأن الإقتصادي ويوظفه لمصلحته للحصول على امتيازات إقتصادية.
فترة الأزمات والكوارث (نموذج فيروس كورونا) فرصة مواتية تشجع الدولة بكل مؤسساتها لإعادة توسيع إنتاج الحكم وإحكام السيطرة من خلال إقناع الشعب أن السلطة في خدمتهم، عن طريق توزيع المعونات المادية والمالية وتوفير السلع بالأسواق بمستوى كاف من الغذاء، وإقناع الشغيلة بتوفير عمل بأجر مضمون ولو بخفظ الرواتب وزيادة ساعات العمل وهو ما يسمى بالاكتفاء بالحاجات "العادية" وتلبية الرغبات "الطبيعية".
الدولة الإستبدادية تستعمل لغة الشأن السياسي بإعتبارها الوسيلة الأقوى لنشر الإيديولوجيا من أجل عملية الضبط والإقناع بأن النظام السياسي الاستبدادي هو نظام ديمقراطي، وبأن الانتخابات المزورة هي انتخابات حرة ونزيهة. كيف تعمل السلطة الحاكمة على خلق وتسييد لغة ثقافية مشتركة بين القمة والقاعدة، بهدف تسهيل التواصل الفوري ولضمان توافق هش بين ممثلين السلطة والنخب المحلية......حتى اصبحنا لا نفرق بين الدولة الديمقراطية والدولة المركزية.
السلطة الإستبدادية تعمل على احتكار الشأن السياسي وتحدد محتواه المعجمي، وتشتغل بواسطته على صناعة الأجسام والعقول، وإدماج المعارضة في عملية شرعنة السلطة لتصبح معارضة مسيطر عليها، وتوظف مؤسسات إجتماعية واقتصادية كأدواة للتعبير عن الولاء للسلطة المركزية (نموذج صندوق التكافل الاجتماعي بتونس بنعلي). إن استخدام البرامج الإجتماعية هو واحد من أكبر تقاليد الزبونية الإستبدادية هدفها الأساسي تهدئة العلاقات الإجتماعية، وتحقيق الأمن في الانتظام المجتمعي، وفي العمق تشهد على رغبة قوية في التحكم والمراقبة.
من بين الآليات كذلك العمل على إستثمار الماضي والموروث الثقافي والديني لشرعنة الإستبداد، وممارسة السيطرة لإضفاء الشرعية كلاعب أساسي ومركزي، للحفاظ على "الهوية الوطنية"، حيث الإصلاحات السياسية تبقى في حدود "حقل المعقول سياسيا". وتعمل كذلك على تطبيع علاقات السيطرة والطاعة، بالاعتماد على هذا الموروث المتخلف، والسهر على إعادة إنتاج الإيديولوجية الاستبدادية عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية. بل الأخطر من ذلك، ان نجد أن سلطة القانون نفسها مطوقة وخاضعة علانية ل"قانون" الموروث الثقافي، لإضفاء الشرعية على الحكام والمحكومين.
في المجال الإقتصادي، يتم تسويق نجاح إنجاز المشاريع الكبرى، يسمونها المهيكلة التي أغلبها برمجت بعيدا عن الرقابة السياسية ومن طرف تكنوقراطيين لا يشتغلون في "السياسة"، ويقدمون في إطار الماركوتينغ السياسي على أنهم أطر تكنوقراط كفئة ومختصين ونزهاء، وعلى أنها مشاريع نموذجية وعظيمة، لإقناع المجتمع السياسي بنجاعة السلطة المركزية، في سياق سيادة وفرض تفكير وحيد وتحريم المناقشات النقدية.
إن الممارسة الضبطية للسلطة الحاكمة، لا تعتمد فقط على أساليب الطاعة والنهي والخوف والعنف والترهيب، وأنها حامية الأمن والاستقرار بالبلاد لفرض سلطتها على المجتمع، بل تعتمد كذلك على خلق فضاء خاص بها، والإقتناع بفضائلها وأفعالها وخطاباتها بالتحايل على العناصر الإيجابية التي تحرك الأفراد والجماعات. لقد نتجت عن شرعية الدولة الإستبدادية القدرة على ضمان الأمن، ووضعها في المقدمة اعتبارات السيادة والحماية الوطنيتين، تاركة في نفس الوقت للأفراد والمجموعات الإجتماعية مساحات من الحرية وفرص التعبير في ما يتعلق بالشأن السياسي، لكن في إطار الدائرة المحددة لهم سلفا.
إن إنتشار الزبونية والمحسوبية على نطاق واسع أفقيا وعموديا، وعمليات التهريب المختلفة، وتوسع القطاع الاقتصادي الغير "مهيكل"، وغياب الشفافية في إعادة توزيع الثروات (الصفقات، وولوج الأسواق، ...)، وغياب المنافسة الحقيقية، ووجود الاحتكار، والتعيين الزبوني في المناصب الخاضع للولاء والتقدير السياسي وليس لعنصر الكفاءة، وسيادات التوافقات في القرارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وتعميق سلبية الناس ولا مبالاتهم، وظروف العمل المهينة، وطرق الترقية الاجتماعية....هي جزء من الأساليب الناعمة التي توظفها الدولة الإستبدادية، لتأييد حكمها وسيطرتها على المجتمع.
تحليل الدواليب الإقتصادية والإجتماعية، يشير إلى أن التوافق وبخاصة الذي يأخد بالتشكل حول مفهوم دولة القانون، هو بالتأكيد إحدى الآليات الأقوى للطاعة، لأنه ببساطة بني على عنف صامت وغير مؤلم في الغالب. ويوكل للنخب السياسية والإقتصادية ومثقفي السلطة مهمة إعادة ما يسمى "بالتجدد الإستبدادي".
البعد المعادي للديمقراطية وحتى الاستبدادي لليبرالية الجديدة الذي يفرض نفسه مند بداية التسعينات كمشروع لطبقة إجتماعية، مشروع تسلطي لتركيز السلطة والثروة ولاستغلال الطبيعة والغالبية العظمى من المجتمع في يد أقلية أوليغارشية. النيوليبرالية الحالية توسع علاقات التبعية الاقتصادية، وتغذي عدم المساواة، وتعطي مكانا متناميا لعمليات التنميط إلى درجة أن الديمقراطية باتت في خطر. إن التنظيم الإقتصادي الليبرالي الجديد الحالي خلق أشكالا جديدة من الإنضباط والتأييد والإكراه والهيمنة.
ألم ندرك بعد أن الليبرالية المتوحشة أصبحت شكلا من أشكال "العبودية المختارة"، وأن مكانزماتها هي مجموع آليات السيطرة وتنوعها ودقتها ؟ أليست هذه الليبرالية المتوحشة مكون أساسي للإضطراب والتهديد الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والبيئي، ومساهمة في إعادة تشكيل التكوينات الحالية لأشكال ممارسة السلطة، حتى في البلدان التي تسمى ديمقراطية (نموذج فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ) ؟
قراءة وتحليل الحسن الياسميني
التشريح السياسي للسيطرة Anatomie politique de la domination. تأليف: بياتريس هيبو
https://drive.google.com/file/d/1MJtoSlk-XHLlqkZPv4m1gceXuUonEMC-/view?usp=drivesdk
#التشريح_السياسي_للسيطرة